الكاتب : عبد السلام الهرشي
صحفي مختص في الشؤون الاقتصادية والمالية
أثناء مداخلته في إحدى الملتقيات الاقتصادية، يروي وزير التشغيل التونسي الأسبق فوزي عبد الرحمان حادثة حصلت له مع أحد المستثمرين الألمان خلال مأدبة عشاء قائلا: ” كان الرجل من كبار رجال الأعمال الألمان و كان ينوي الذهاب إلى الجزائر من أجل عقد بعض الصفقات التجارية، فبادرته بسؤال :”لماذا لا تحاول الاستثمار في السوق التونسية ؟” فأجابني ” اقتصادكم مغلق”.
لعل إجابة رجل الأعمال الألماني تعد التشخيص الأقرب للواقع لوضعية الاقتصاد التونسي. ففي سنة 2012، نشر الباحثان الأمريكيان دارون عجم أوغلو وجيمس روبنسون كتابا بعنوان “لماذا تفشل الأمم، مصادر القوة، الإزدهار والفقر”. وفي أحد فصول الكتاب الذي تحدثا فيه عن تونس، أكد الباحثان أنّ ” الثورة التونسية هي فرصة جيدة ليس فقط للتغيير السياسي و إنما لإنهاء إنغلاق الاقتصاد التونسي ونسف ما يسمى بـ”منظومة الريع”. اليوم بعد 10 سنوات هل إنتهت “منظومة الريع” في تونس؟
الحصول على الرخصة.. المتاهة البيزنطية
محمد البرهومي ، (30 سنة) شاب أصيل منطقة القصرين، واحد من الشباب الذين كان لديهم طموح في بعث مشروعهم الخاص، أكمل دراسته في سنة 2010 وبعد سنتين من العمل في إحدى الشركات الصناعية في العاصمة قرر العودة إلى مسقط رأسه القصرين التي كانت منطلقا للثورة التونسية. يحكي محمد تجربته قائلا :
“بعد الثورة كنت أظن أن توجه الدولة سيذهب نحو إعطاء الشباب فرصة للاستثمار فقررت بعث مركز مندمج لتربية الدواجن” . يخضع هذا النوع من المشاريع إلى موافقتين، موافقة مبدئية و موافقة نهائية. وبين الموافقتين هناك الكثير من الوثائق التي يجب إحضارها منها مثال هندسي للمشروع، موافقة من المصالح البيطرية ودائرة التربة، دراسة حول التزود بالكهرباء وعدة وثائق أخرى. “
يضيف محدثنا في نفس المضمار أنّ “من بين الوثائق المطلوبة وثيقة في تحليل المياه التي سيتم اعتمادها في المشروع حيث أخذت زجاجة من مياه البئر العميقة التي سأعتمدها في المشروع و بحكم عدم توفر المعلومة ومن خلال إعتماد المنطق قررت أن أذهب بالزجاجة إلى إدارة المياه للتحليل، ظلت الزجاجة هناك قرابة سنة كاملة قبل أن يعلمني أحد موظفي المركز أن التحليل يتم إنجازه في إدارة الصحة و ليس في إدارة المياه. وتلك كانت أولى العثرات التي جعلتني أتخلى عن المشروع، إضافة إلى أن أحد الأشخاص الذي يملكون مدجنة أكد لي أنه يجب إمضاء عقد مع إحدى الشركات المحتكرة لهذا المجال حتى أستطيع العمل”.
ويؤكد محمد بنبرة تشي بحجم المعاناة التي يكابدها الآلاف من الشباب التونسي الحالم ببعث مشروعه الخاص أنه اكتشف بالصدفة أن الأرض التي يمتلكها ليست مسجلة في السجل العقاري مما سينجر عنه مباشرة رفض التمويل من البنك.
في 11 ماي 2018 أمضى رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد على الأمر الحكومي عدد 417 المتعلق بإصدار القائمة الحصرية للأنشطة الاقتصادية الخاضعة لترخيص وقائمة التراخيص الإدارية لإنجاز مشروع. ورغم أن الأمر يعتبر خطوة في طريق تسهيل الإجراءات الإدارية وتوفر المعلومة للمواطنين إلا أنه يكشف عمق البيروقراطية التونسية ومدى تعقد الإجراءات الإدارية الخاصة بالنشاطات الاقتصادية.
في سنة 2012 قام خبير اقتصادي يدعى هرناندو دو سوتو بدراسة حول الاقتصاد الموازي, وكطريقة لقياس مدى فداحة نظام الرخص والتعقيدات الإدارية التي تعمل بها الدولة التونسية، اختار كمثال للاستثمار “مخبزة”. بعد بحث في حجم الرخص والوثائق المطلوبة، اكتشف الخبير أنه ولفتح مخبزة في مدينة أريانة يتطلب الأمر العشرات من الوثائق الإدارية كما إكتشف الخبير أنه من بين 616 الف مؤسسة تونسية هناك ما لا يقل عن 524 ألف تنشط في الإقتصاد الموازي. إضافة إلى ذلك، شملت الوثيقة أكثر من 200 نشاط اقتصادي من ترخيص في إنشاء مخبزة إلى ترخيص في إحداث مساحة تجارية كبرى . تشريعيا يمكن لجميع المواطنين الحصول على هذه الرخص لكن على الواقع تختلف القصة وتصبح الولاءات ودرجة القرب معايير محددة لمن يحصل عليها.
يعتبر العضو بمنظمة ألرت ALERT لؤي الشابي أن الرخص والقوانين تمنع المواطنين من الذين لا يملكون صفات معينة من الدخول إلى قطاعات بعينها . كما يؤكد أن هذا الوضع يجهض المنافسة و يقوي وضعية الاحتكار التي بدورها تدفع نحو تفقير البلاد.
من اقتصاد الريع إلى سياسة الريع
في ما يتعلق بتدخل كارتيلات المال في عالم السياسة، يمكن اعتبار انتخابات 2014 مناسبة مهمة في تاريخ هذه الكارتيلات، حيث سجلت الحضور اللافت لرجال الأعمال كنوّاب للشعب و”راعين لمصالحه” بنسبة تجاوزت 10 بالمائة من إجمالي عدد النوّاب.
كانت الثروة وأصحاب الثروات قبل 2011، مكمّلا للسلطة وحاشية تأتمر بقرارات الرئيس وعائلته، ولكنّ الوضع تغيّر بعد هروب الرئيس السابق زين العابدين بن علي، واتجّهت رؤوس الأموال التونسيّة إلى تحصين نفسها من تجربة مماثلة عبر لعب دور مباشر في الحياة السياسيّة والتحوّل إلى مقرّر لسياسات البلاد وتوجّهاتها العامّة. في تقريرها الصادر في سنة 2017 تقول مجموعة الأزمات الدولية:
“منذ سقوط النظام الاستبدادي الذي كان يحصر الصفقات المربحة في أوساط المقربين الضيقة استشرى الفساد المالي وتمدّد مستفيدا من كثرة الأسواق المربحة”
كما أن أحد المستشارين في رئاسة الحكومة قد صرّح لمجموعة الأزمات الدولية قائلا: ” اليوم الوضع تغير فالفاعلون الاقتصاديون الذين يمتلكون سيولة كبيرة يمكنهم بسهولة فرقعة حزب سياسي”.
“صرّح عديد المعارضين لحكم الترويكا أنّ النهضة قد غذّت التجارة الموازية عبر الحدود بغاية مواجهة النخبة الاقتصادية التقليدية، وكما أبرز أحد المنتمين لحزب الرئيس المخلوع بن علي، فإنّ النهضة تشجّع التجارة الموازية عبر الحدود لخلق رأسمالييّها الخاصين وذلك بغية القضاء على رأسمالي الساحل”.
يرى المدير السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية طارق الكحلاوي أن منظومة الريع تمكّنت من القيام بعملية انتقال سريع من منظومة ريع تحت حكم بن علي إلى منظومة ريع حرة تتدخل مباشرة في العملية السياسية بعد الثورة:
“تحررت هذه المنظومة من شرط المصاهرة مع عائلة الحكم وأصبحت هي عائلة الحكم دون أن تكون في الحكم بشكل مباشر”
يدفعنا هذا التحليل إلى الاستفسار عن مدى أهمية الديمقراطية السياسية التي تعيشها تونس لتحقيق الديمقراطية الاقتصادية.
الحديث عن ديمقراطية اقتصادية -يجيب الكحلاوي- هو محض افتراء، فالوضع الذي يحصل الآن هو معقد جدا ويمكن أن نمضي فترة طويلة في ديمقراطية فاسدة سياسية. هذه الديمقراطية “الفاسدة” جعلت قطاعات اقتصادية كثيرة محاصرة بنظام الرخص و بشروط مجحفة.
أكبر دليل على الديمقراطية الفاسدة التي تعيشها تونس ما دونه مؤخرا العضو بالمكتب التنفيذي لحركة النهضة محمد خليل البرعومي على صفحته على فايسبوك عندما قال:”يجب تقييم ومراجعة الخيارات الإقتصادية والاجتماعية للحزب قبل أن يخلص أمره إلى حارس ريعي جديد”، تصريح يمكن إعتباره إعترافا ضمنيا من الحركة بسيطرة عائلات الريع على السياسة في تونس بعد الثورة.
هذه الوضعية نتج عنها استئثار أشخاص ومؤسسات بعينها بامتيازات كثيرة من جانب، ومن الجانب الآخر صعّبت على فئات أخرى الولوج إلى هذه القطاعات والإستثمار فيها. ففي مجال تصدير زيت الزيتون مثلا وحسب قرار وزير الفلاحة المؤرخ في 19 أكتوبر 2005 والذي يضبط جملة الشروط اللازمة لتصدير زيت الزيتون السائب، يجب على كل من يريد أن يصبح مصدرا لزيت الزيتون ضمن الحصة السنوية للاتحاد الأوروبي أن يكون له رأس مال لا يقل عن 700 ألف دينار، أن يتصرف على وجه الملك أو الكراء في محلات لخزن زيت الزيتون لا تقل طاقة استيعابها عن 100 طن، أن يمتلك أو يتعاقد مع مخبر تحاليل، أن ينجز الحد الأدنى للتصدير والمتمثل في 500 طن على الأقل من زيت الزيتون السائب خلال موسم واحد في فترة لا تتجاوز الموسمين إضافة إلى عدة شروط أخرى تتعلق بخصائص الخزانات وحاويات نقل زيت الزيتون، وإذا تم استيفاء الشروط فهذا لا يعني حصولك على رخصة لتصدير زيت الزيتون ضمن الحصة السنوية للاتحاد الأوروبي، إذ يتحتم عليك انتظار حصول ملفك على موافقة لجنة يحدد أعضاءها وزير الفلاحة سنويا.
شرط فقط من مجموعة هذه الشروط يمكن أن يتسبب في عزوف مئات أو آلاف المستثمرين عن الاستثمار في هذا القطاع.
أوليغارشيا الريع.. البنوك عصب الحرب
في جويلية 2019، قال سفير الاتحاد الأوروبي السابق بتونس باتريس برغاميني إن لوبي عائلات يتحكم في الاقتصاد التونسي . وأضاف برغاميني في حوار لصحيفة ”لوموند” الفرنسية أنّ هذه اللوبيات تحاول فرض سيطرتها على المنوال الاقتصادي في تونس الذي أصبح قائما على منفعة بعض النافذين، قائلا: “يحاولون منع كل المحاولات الرامية لإرساء الشفافية والحوكمة في المجال الاقتصادي على غرار ما كان يحدث خلال العهد العثماني” .
تصريح أثار جدلا واسعا في تونس وقد اعتبره البعض محاولة للضغط على تونس في مفاوضاتها مع الطرف في الأوروبي في ما يتعلق باتفاقية الأليكا، فيما اعتبره آخرون رؤية و تقييما موضوعيين لحالة الاقتصاد التونسي.
تعتبر السيطرة على البنوك أهم المعارك التي تخوضها العائلات المتحكمة في الاقتصاد التونسي، حيث يرى الباحث حمزة المؤدب أن البنوك هي عصب الحرب الاقتصادية، مضيفا أن “التواجد في البنوك يمكّن هذه العائلات من الحصول على قروض لتمويل مشاريعها و للتحكم في المنافسة التي من الممكن أن تهدد ثرواتها، كما أن المتابع للنظام البنكي في تونس يمكن أن يلحظ أن كل عائلة تحاول التواجد في أكثر من بنك لضمان التمويل على أكثر من جهة”.
التدقيق في بعض الوثائق المتعلقة ببعض البنوك المدرجة في البورصة وعددها 13 يمكن أن نلحظ من خلاله مثلا وجود عائلة الحرشاني في بنك تونس العربي الدولي وبنك الأمان وبنك الإسكان وشركات مالية أخرى، أيضا وجود عائلة المزابي في البنك التجاري و في الاتحاد الدولي للبنوك، وجود عائلة التمرزي في بنك تونس العربي الدولي والاتحاد البنكي للصناعة والتجارة. إضافة إلى التمويل، يمكّن التواجد في البنوك هذه العائلات من بناء جدار للحماية من المنافسة من خلال منع تمويل أي نشاط من الممكن أن يكون منافسا لأحد الشركاء في البنوك.
تجدر الإشارة إلى أن الوثائق التي وجدناها في البورصة لا تحتوي إلا على المساهمين الذي تفوق مساهماتهم نسبة 5% .
لكن في مقابل هذا هل تقوم البنوك بوظيفتها في تمويل الإقتصاد التونسي من خلال تمويل المشاريع؟ يرى حمزة المؤدب أن القطاع البنكي في تونس لا يلعب دوره في تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة و التي تعتبر رافعة الاقتصاد التونسي بالنظر إلى النسبة التي تمثلها والتي تتجاوز 90%من مجموع الشركات في تونس.
تقارير عديدة أكدت أن الشركات الصغرى والمتوسطة تعاني من غياب التمويل حتى أن رئيس وكالة النهوض بالصناعة والتجديد الأسبق سمير بشوال أكد في تصريح سابق أنه وعلى الرغم من توفر جميع مصادر التمويل إلا أن المؤسسات الصغرى و المتوسطة لا تنتفع بهذا التمويل.
إضافة إلى ذلك، تمثل العمولات حوالي 21 بالمائة من الناتج الإجمالي للبنوك وهي نسبة مرتفعة جدا. وقد بلغت قيمة هذه العمولات التي تحصلت عليها البنوك التونسية في سنة 2019 حوالي 1.1 مليار دينار، وهو رقم طبيعي بالنظر إلى طبيعة هذه العمولات (التي تكون غريبة في بعض الأحيان) وارتفاع أسعارها، فأنت تدفع عمولة لسحب أموال وتدفع عمولة لإيداع أموال في البنك، تدفع عمولة في جميع العمليات التي تتم عبر الشيكات، تدفع عمولة للحصول على بطاقة بنكية، أو لتغيير الرقم السري للبطاقة،
للاعتراض على البطاقة البنكية في حال السرقة وحتى لإنشاء حساب على تطبيقة البنك يمكنك من معرفة رصيدك، تدفع عمولة من أجل الحصول على قرض و تدفع عمولة من أجل خلاص شريحة القرض و تدفع عمولة حتى من أجل خلاص القرض مسبقا.
يمكن القول من هذا المنطق إنّ خريطة البنوك في البورصة على الأقل والمسيطرين عليها تستطيع أن تفسر تقارب أسعار الخدمات البنكية وارتفاعها وهو أن تواجد هذه العائلات في أكثر من بنك يلغي المنافسة تماما.
امتداد أفقي للثروة
رغم أن التمدد العمودي للثروة يحتاج إلى استثمارات ضخمة في اليد العاملة وأيضا في البحث العلمي، لكنه يعتبر من أهم الاستراتيجيات الخالقة للثروة و لمواطن الشغل وتنتج عنه مؤسسات قادرة على المنافسة والوقوف في وجه الأزمات الاقتصادية، كما يكسب البلاد شهرة من خلال ماركات تنتشر في جميع أنحاء العالم.
في تونس تجنح عائلات الريع إلى الانتشار أفقيا من خلال الاستثمار في مجالات متعددة وهو تمش تم اعتماده منذ الاستقلال.
ويشير الكاتب الهادي التيمومي في كتابه تونس 1956 – 1987 إلى “أن رجال الأعمال التونسيين لا يتخصصون في مجالات اقتصادية معينة مثل البرجوازيات الغربية العريقة، وإنما يجمعون بين الكثير من النشاطات خوفا من مخاطر المنافسة الاقتصادية الشديدة. كما أن أغلب رجال الأعمال التونسيين لاتزال تنقصهم روح المبادرة و الذهنية الرأسمالية فأغلبهم موظفون كبار وتجار وأبناء فلاحين كبار استطاعوا الحصول على قروض هامة بشروط ميسرة جدا مستغلين مواقفهم في النظام السياسي”.
ويرى الباحث حمزة المؤدب أن هذه العائلات لا تستطيع التمدد عموديا لأن هذا التمدد يحتاج إلى التكنولوجيا ويد عاملة وأموال ضخمة، مضيفا في السياق ذاته:
التمدد العمودي هو الذي يخلق الثروة ومواطن الشغل ويُمكّن من اكتساح الأسواق العالمية
تعتبر مجموعات المبروك، بن يدر والحرشاني من أكثر المجموعات المنتشرة أفقيا. هذا التمدد الأفقي سمح لمجموعة “أمان” التابعة لعائلة بن يدر بالاستثمار في أكثر من 9 أقطاب اقتصادية (قطب اقتصادي يحتوي على عدة شركات) منها القطب البنكي، القطب السياحي، القطب الصحي والقطب الغذائي، وهي قطاعات اقتصادية تختلف اختلافا كليا سواء في طبيعة النشاط أو حجم التمويل أو اليد العاملة. كما تمتدّ مجموعة الحرشاني التابعة لعائلة الحرشاني على عدة قطاعات مثل الفلاحة و البنوك والسياحة والتأمين . كذلك تمتد نشاطات مجموعة المبروك التابعة لعائلة المبروك لتشمل المساحات الكبرى والبنوك والسيارات والاتصالات والمواد الغذائية وقطاعات أخرى.
التمدد الأفقي للثورة له تداعيات كبيرة على الاقتصاد و توازن المنافسة. فالانتشار مثلا في البنوك يمكّن مجموعات معينة من الحصول على قروض لتمويل مشاريعها بفوائد أقل من مجموعات أخرى لا تملك مساهمات في تلك البنوك، وهو ما يضعف من قدرتها التنافسية. كما أن استثمار عائلات معينة في نفس القطاعات يمكنها من تحديد الأسعار في تلك القطاعات. إضافة إلى ذلك، لا يمكّن الانتشار الأفقي للثروة أصحاب الأموال من الامتياز في قطاع معيّن وتبقى الشركات المنتشرة في عدة قطاعات مرهونة بمستوى معين من القوة لا يمكن تجاوزه.
قطاع الشوكولاطة.. مثال للاحتكار
يعتبر التونسيون من أقل الشعوب استهلاكا لمادة الشوكولاطة حتى على المستوى المغاربي، حيث لا يتجاوز الاستهلاك السنوي لدى التونسي حوالي 1.5 كلغ، ورغم ضعف الاستهلاك لهذه المادة إلا أنها كانت هدفا لاحتكار تصنيعها في تونس منذ الثمانينات. تفرض الدولة التونسية معاليم ديوانية كبيرة على توريد المنتجات الفلاحية التي يتم إنتاجها في تونس وذلك حفاظا على الإنتاج الوطني، لذلك فإن استيراد حبة الكاكاو خضع لمعاليم ديوانية رمزية بحكم أن تونس دولة غير منتجة لهذه المادة.
لكن في المقابل تفرض الدولة معاليم ديوانية مشطة على جميع المواد المستخرجة من الكاكاو.
حسب منظمة “ألرت” هناك مجمع وحيد يستطيع إنتاج الشوكولاتة في تونس وهو مجمع “سوتيشوك” الذي تعود ملكيته إلى عائلة مبروك. لؤي الشابي العضو بمنظمة “ألرت” قال إنّ المجمع تمكّن من بناء مصانع لتحويل مادة الكاكاو في ثمانينات القرن الماضي لذلك فهو يستورد كميات من الكاكاو ويقوم بعملية التحويل في تونس ثم يحوّلها إلى المصانع التي تنتج الشوكولاتة. يوضح الشابي في نفس الإطار قائلا:
استنادا إلى المعاليم المشطة المفروضة على كل المنتجات المستخرجة من مادة الكاكاو أصبح من الصعب الاستثمار في هذا القطاع
نصف قرن من الاقتصاد الريعي
لا نعثر إلى اليوم على تعريف موحد ومرجعي للاقتصاد الريعي ما يفسر وجود مدارس كثيرة لتفسير هذا النوع من الاقتصاد، منها المدرسة الليبرالية والمدرسة الماركسية وتعريفات أخرى كثيرة. وحسب بعض المفاهيم التي وضعت له فإنّ “الاقتصاد الريعي هو اعتماد الدولة على مصدر واحد للريع (الدخل) وهذا المصدر غالباً ما يكون مصدراً طبيعياً ليس بحاجة إلى آليات إنتاج معقدة سواء كانت فكرية أو مادية كمياه الأمطار والنفط والغاز، بحيث تستحوذ السلطة الحاكمة على هذا المصدر وتحتكر مشروعية امتلاكه ومشروعية توزيعه ومشروعية بيعه”.
تطور الاقتصاد الريعي بعد ذلك ليشمل جميع القطاعات الإقتصادية لا فقط الثروات الطبيعية وتطور مفهومه أيضا ليتحول من احتكار الدولة للقطاعات الإقتصادية إلى توزيع هذه القطاعات على أشخاص أو مجموعات معينة وفقا لولاءات سياسية أو عشائرية أو جهوية وحمايتها من المنافسة من خلال القوانين و التشريعات و الرخص.
رغم أنّ الاستعمار الفرنسي لم يكن يسمح بتطور البرجوازية التونسية إلا أن الإحصائيات سجلت في سنة 1949 حوالي 6194 تونسيا تفوق قيمة أملاكهم حوالي 100 ألف فرنك فرنسي.
بعد الاستقلال، ظهرت طبقة جديدة من الأغنياء الجدد اعتبرها بعض المتابعين برجوازية جديدة صنعها النظام التونسي آنذاك في محاولة منه لاستبدال طبقة الأثرياء زمن الإستعمار. بدأت هذه الطبقة تتطور من خلال الحصول على لزمات وصفقات مباشرة من الرئيس أهمهم البشير سالم بالخيرية ورجل المقاولات المشهور علي مهني الذي بدأ حياته في عالم الأعمال زمن الإستعمار ويعدّ ومن القلائل الذين نجحوا في التعايش مع دولة الاستقلال ما مكنه من الإمتداد المالي أفقيا من خلال الاستثمار في نشاطات أخرى مثل البنوك، النزل و الصناعات المتنوعة كما وسع نشاطه نحو ليبيا ومصر.
بعد السبعينات، نجح توجه الدولة نحو الانفتاح الاقتصادي في خلق مجموعة جديدة من رجال الأعمال حظيت بدعم أجنبي فرنسي إضافة إلى دعم رئيس الحكومة أنذاك الهادي نويرة مثل عائلة السلامي و عائلة اللطيف. في هذه الفترة أصبح اقتصاد الريع أكثر وضوحا وذلك بعد التنمية الاقتصادية التي حققتها تونس و التي تسببت في زيادة حجم ثروات رجال الأعمال وبروز علاقاتهم مع السلطة السياسية.
وصول بن علي إلى السلطة جعل دور هذه الطبقة تتراجع مع بداية التسعينات لتترك مكانها شيئا فشيئا إلى طبقة جديدة كونت ثروتها بسرعة، تتشكل هذه الطبقة من عائلة الرئيس (عائلة بن علي ) وأصهاره (عائلة المبروك، عائلة شيبوب، عائلة الطرابلسي، عائلة الماطري) ، إضافة إلى بذور لرجال أعمال بدأت تتكون حول هذه العائلات. تعتبر هذه الفترة النموذج المثالي لاقتصاد الريع في تونس. تمكنت هذه العائلات والعائلات المرتبطة بها خلال هذه الفترة من السيطرة على عدة قطاعات مثل البنوك، السيارات، الإعلام، المقاولات، الرياضة، الفلاحة وعدة قطاعات أخرى.
كما استعملت هذه العائلات عدة أساليب للسيطرة على القطاعات الاقتصادية سواء من خلال القوانين ونظام الرخص أو من خلال الإبتزاز والتهديد لقربهم من السلطة السياسية وفق ما تؤكده شهادات جمعتها هيئة الحقيقة والكرامة التي تمّ تركيزها بعد الثورة التونسية من أجل الإشراف على مسار العدالة الانتقالية.
كان الجميع يأمل في أن تكون الثورة فرصة لمراجعة السياسة الإقتصادية ونسف الأقفال التي وضعها الإقتصاد الريعي طوال نصف قرن لغلق القطاعات الإقتصادية أمام المنافسة إلاّ أنها في الواقع مثلت مناسبة لتحرر هذه العائلات من شرط الولاء للسلطة السياسية وانتقالها إلى ممارسة السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر.
يقول العضو في منظمة ألرت A L E R T لؤي الشابي إنّ تونس لم تعش انفتاحا اقتصاديا لا في فترة الإستعمار و لا في فترة بورقيبة و لا في فترة بن علي و لا حتى الآن. ويضيف:
حصلت الخوصصة بالمحاباة و درجة القرب من السلطة، كما تم إقرار تشريعات للتضييق على الدخول للأنشطة الإقتصادية
حسب منتدى البحوث الإقتصادية، فإنه غداة هروب الرئيس السابق زين العابدين بن علي صادرت الحكومة التونسية آنذاك أكثر من 200 شركة كانت مملوكة لعائلة بن علي وأصهاره. ثلاثة من أكبر شركات السيارات المصادرة الضخمة تمكنت من الظفر بملكيتها عائلات معروفة. بولينا المملوكة لعائلة بن عياد وعائلة بن يدر حيث نجحا في حيازة الحصة الأكبر من شركة النقل. عائلة بوشماوي وعائلة شبشوب تمكنتا من الظفر بحصص مهمة في شركة سيتي كارز كما تمكنت مجموعة الوكيل من شراء شركة النقل للسيارات.
و يؤكد التقرير الصادر في سنة 2018 أنه للاستحواذ على هذه الشركات ضغطت هذه العائلات قبل ذلك من أجل منع تحويل الشركات الرابحة إلى صندوق الودائع والأمانات.
إضافة إلى ذلك، رصد التقرير شبهة تضارب المصالح تحيط برئيس مجلس إدارة شركة الكرامة هولدينغ المملوكة للدولة والتي تدير الشركات المصادرة أحمد عبدالكافي والذي إضافة إلى ذلك هو عضو في مجالس إدارة عدد من الشركات المالية.
الاقتصاد الريعي.. الاستعمار الداخلي
في كتابه “الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة”، يرى الكاتب الصغير الصالحي أنه ولكي تتحقق وضعية الاستعمار الداخلي يجب أن تتوفر 4 مقومات وهي الهيمنة الثقافية، الهيمنة السياسية، الهيمنة الاجتماعية و الهيمنة الاقتصادية، لكن هل يمكن إعتبار الاقتصاد الريعي في تونس استعمارا داخليا؟
في إجابته على هذا السؤال يقول الصغير الصالحي إنّ الإقتصاد الريعي هو جزء صغير من الهيمنة الإقتصادية التي هي بدورها جزء من الاستعمار الداخلي مضيفا:
“في الحالة التونسية جميع مقومات الإستعمار الداخلي متوفرة وجميع مقومات الهيمنة الاقتصادية لفئة ما على حساب فئات أخرى متوفرة بما فيها الاقتصاد الريعي”.
لم تحاول الدولة التونسية بعد الاستقلال تغيير منوال التنمية الذي أرساه الإستعمار بل واصلت فيه من خلال اعتبار جهات ذات أهمية عليا بحكم تواجدها على السواحل وجهات أخرى بقيت لليد العاملة الرخيصة و الثروات الطبيعية. تركز استثمارات الدولة في جهات معينة من البلاد خلق طبقة معينة من رجال الأعمال ونخب اقتصادية تنتمي لتلك الجهات. كما يعتبر الصغير الصالحي أن التهريب هو محاولة من الجهات التي حرمت من التنمية طوال العقود الفارطة للإنفلات من الإستعمار الداخلي.
بعد عشر سنوات من الثورة ما تزال تونس ترزح تحت اقتصاد ريعي متخلف وما تزال فئات كبيرة من المواطنين محرومة من أبسط الحقوق الإقتصادية والاجتماعية و ممنوعة من ممارسة مئات الأنشطة الإقتصادية بسبب العراقيل المالية والقانونية التي تضعها الدولة منذ عقود طويلة ومع كل نظام سياسي يأتي يسعى إلى صناعة نخبة إقتصادية موالية له من خلال الإمتيازات و الرخص.
في أكتوبر 2012 قالت مؤسسة ويلث إكس Wealth X (وهي مؤسسة سنغافورية تختص بالثروة و الأثرياء في العالم) أن تونس تحتل المرتبة السابعة إفريقيا من حيث عدد المليونيرات والملياديرات قبل ليبيا والجزائر وهما بلدان نفطيان وكذلك قبل المملكة المغربية التي شهد اقتصادها انتعاشة في السنوات الماضية. وحسب تعريفات جامعة كامبريدج يعتبر مليونيرا كل شخص يمتلك مليونا من العملة المحلية ما يعني أنه في تونس يعتبر مليونيرا كل من يمتلك أكثر من مليون دينار ، ويعتبر ملياديرا كل شخص يمتلك مليار دينار. وتحتوي تونس حسب ويلث إكس على حوالي 70 مليونير يمتلكون ثروة تصل إلى حوالي 9 ملياديرات.
تعتبر هذه الأرقام نتيجة مباشرة للإقتصاد الريعي، إغلاق الاقتصاد من أجل فئة معينة يجعل الأموال تتكدس لدى فئة قليلة فيما من الممكن أن تصل نسبة الفقر إلى 50% حسب توقعات صندوق النقد الدولي بسبب جائحة كوفيد 19.
في المحصلة يمكن الجزم بأنّ إقتصاد الريع هو اقتصاد صلب القانون ويستهدف قطاعات معينة ويعتبر مدخلا للفساد ولكن بطريقة قانونية من خلال إغلاق الطريق أمام الشركات الأخرى ولاسيما المبادرات الشبابية. كما أن هذا النوع من الاقتصاد لا يشغل ولا يخلق الثروة ولا يؤمن بالبحث العلمي والابتكار. هو اقتصاد عائلي يؤمن فقط بالعائدات المالية التي تكون حكرا فقط على عائلات بعينها. وكنتيجة لهذا النوع من الاقتصاد انتشرت ظاهرة التهريب وهي حسب متابعين محاولة من بعض الأشخاص للإفلات من الاقتصاد الريعي بطريقة غير قانونية. لكن رغم النتائج الكارثية لهذا الصنف من الاقتصاد الذي زاد في تعميق نسب الفقر في المجتمع التونسي لم تنجح الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في فتح أي قفل من أقفال هذا الاقتصاد بل إنّ بعض المصادر تؤكد أنّ هناك من الحكومات من حاولت نسف هذا الاقتصاد لكن تم إسقاطها وهنا تكمن أهمية الدخول للحياة السياسية بالنسبة لهذه العائلات.
الكاتب : عبد السلام الهرشي
صحفي مختص في الشؤون الاقتصادية والمالية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق